انتهت في الثالث والعشرين من يناير الجاري، مهلة التسعين يومًا التي حدَّدها اتفاق جنيف لإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية، إذ لم يتمّ اتخاذ أي خطوات جدية ولم تظهر أي مؤشرات حقيقية على خروج تلك القوات، بالرغم مما نص عليه الاتفاق الذي تم توقيعه بين طرفي الصراع الليبي في 23 أكتوبر الماضي على خروج جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا، برًا وبحرًا وجوًا، في مدة أقصاها ثلاثة أشهر من توقيع وقف إطلاق النار. ويرتبط باستمرار المرتزقة في الغرب الليبي، العديد من التداعيات السلبية على مجمل الأوضاع في ليبيا.
معضلة المرتزقة:
يرتبط بانتشار المرتزقة في الداخل الليبي، العديد من الإشكاليات الجوهرية التي يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- استمرار التوظيف الخارجي: وفق تقديرات المبعوثة الأممية بالإنابة إلى ليبيا ستيفاني ويليامز، فإن هناك نحو 20 ألفًا من القوات الأجنبية والمرتزقة في ليبيا، كما أشارت إلى وجود عشر قواعد عسكرية في ليبيا تشغلها بشكل جزئي أو كلي قوات أجنبية ومرتزقة، ومع تمديد البرلمان التركي في أواخر ديسمبر الماضي للوجود العسكري في ليبيا؛ فإن ذلك يرتبط ارتباطًا وثيقًا باستمرار المرتزقة، خاصةً وأن الاستراتيجية التركية في غرب ليبيا تعتمد بشكل أساسي على توظيف هؤلاء المرتزقة، إذ إن تسليم أنقرة بإخراج المرتزقة من المعادلة الليبية يفقدها مصدر قوة مهمًا للغاية في مواجهة الخصوم. وفي 23 يناير الجاري، قال مدير إدارة التوجيه المعنوي بالجيش الوطني الليبي، إن تركيا تسعى لتوظيف المرتزقة من أجل المساومة بهم، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب، خاصةً في ظل ما اعتبره من تقدم في العملية السياسية، والذي يمثل عائقًا بطبيعة الحال أمام المخططات التركية المشبوهة في ليبيا.
2- إحلال وتجديد الوكلاء: في ظل أزمة المستحقات المالية القائمة بين "الراعي التركي" ووكلائه المرتزقة في الغرب الليبي، فقد اتجهت أنقرة إلى سياسة الإحلال والتجديد، إذ تقوم بإعادة بعض هؤلاء المرتزقة من الأراضي الليبية إلى أنقرة، في مقابل نقل أعداد أخرى من المرتزقة إلى الغرب الليبي، وقد كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان في 23 يناير الجاري، أن المجموعة العائدة تبلغ ما بين 100 إلى 250 مرتزقًا، فيما توجهت أعداد مماثلة إلى ليبيا، وسط تحذيرات من إمكانية فرار بعض المرتزقة الموالين إلى القارة الأوروبية على غرار ما حدث في أوقات سابقة، وهو ما يشكل خطرًا كبيرًا على دول القارة.
3- صعوبة إخراج المرتزقة: في ظل صعوبة تنفيذ البند المتعلق بإخراج المرتزقة على مدار الأشهر الثلاثة الماضية، فقد أعلن أحد أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، أن إخراج المرتزقة يحتاج مزيدًا من الوقت، في وقت تُطرح فيه إمكانية تمديد فترة خروج المرتزقة والمقاتلين الأجانب إلى 90 يومًا إضافية، وهي مسألة قد تشكل أولوية خلال المرحلة المقبلة، خاصةً في حال لم يتم اختراق وقف إطلاق النار وإتمام التوافقات السياسية القائمة، وهو ما يرتهن بشكل أساسي بالإرادة الأممية والدولية وقدرتها على إقناع الجانب التركي بشكل خاص على إخراج المرتزقة من الغرب الليبي.
4- إشكالية التجنيس والإدماج: يُشكّل الخطر الأكبر في الوقت الحالي، حتى أكثر من مسألة إخراج المرتزقة من الأراضي الليبية، إمكانية لجوء حكومة الوفاق إلى تجنيس بعض هؤلاء المرتزقة، ومن ثم إدماجهم في المؤسسات الوطنية الليبية في مرحلة لاحقة، وهو ما طُرح في وقت سابق من العام الماضي من جانب رئيس حكومة الوفاق "فايز السراج" ووزير داخليته "فتحي باشاغا"، في إطار بدء مشروع موسّع لتجنيس المرتزقة المنتشرين في غرب البلاد، وهو ما يُشكل خطرًا بالغًا، خاصةً في ظل رغبة بعض هؤلاء المرتزقة في الاستقرار في غرب ليبيا، ورفض العودة إلى بلادهم، لا سيما سوريا، خوفًا من الملاحقات القانونية.
العودة للمربع صفر:
يحمل استمرار انتشار المرتزقة في الأراضي الليبية عددًا من التداعيات السلبية التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- إفشال الحلحلة التدريجية للصراع: في ظل الجهود الدولية والإقليمية المكثفة من أجل إتمام المسارات السياسية، وهو ما تجلّى مع الإعلان عن عقد الانتخابات في ديسمبر المقبل، فيما اتفق طرفا الحوار الليبي في 23 يناير الجاري، بمدينة بوزنيقة المغربية، على تشكيل وتسمية فرق عمل مصغرة، تتولى اتخاذ التدابير الإجرائية بشأن شاغلي المناصب السيادية، وتلك المناصب تتعلق بمحافظ مصرف ليبيا المركزي ونائبه، ورئيس هيئة الرقابة ووكيله، ورئيس مكافحة الفساد ونائبه، ورئيس ديوان المحاسبة ونائبه، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات. وذلك التقدم الملموس في العملية السياسية قد يواجه خطر الإفشال في حال لم يتم إخراج المرتزقة في المدى المنظور.
2- اختراق وقف إطلاق النار: يتم توظيف المرتزقة في مناطق الصراع باعتبارهم "أدوات حرب" وليسوا بأي حال من الأحوال "أدوات سلام"، وبالتالي فإن المرتزقة قد يشكلون تهديدًا حقيقيًا لصمود وقف إطلاق النار القائم بين مليشيات الوفاق والمرتزقة من جانب وقوات الجيش الوطني الليبي من جانب آخر، وهو ما حذّر منه المتحدث باسم الجيش الوطني اللواء "أحمد المسماري"، إذ أكد في 18 يناير الجاري، أن هناك عمليات نقل للمرتزقة من تركيا وسوريا إلى ليبيا، وأن هؤلاء المرتزقة مختلفون عن سابقيهم، إذ إنهم مدربون على أعلى مستوى، كما تم تدريبهم على الأسلحة الأكثر تقدمًا، معتبرًا أن ذلك يؤكد مساعي تركيا لإمكانية "خطف نقطة تماس غرب مدينة سرت"، وهو ما يعكس -في مجمله- إمكانية اختراق وقف إطلاق النار، بما قد يُعيد الأوضاع في الداخل الليبي من جديد إلى "المربع صفر".
3- تأجيج الأوضاع غرب ليبيا: هناك معضلة أخرى تتعلق بانتشار المرتزقة في الغرب الليبي، وهي مرتبطة بثلاثة جوانب، أولها: وجود حالة سخط شعبي شديدة ضد هؤلاء المرتزقة، خاصة وأنهم قد قاموا بعمليات سلب ونهب كبيرة للمدنيين، وقد كان ذلك أحد أسباب خروج الاحتجاجات من آن لآخر في الغرب الليبي، في ظل التنديد بأفعال المرتزقة. ومن جانب آخر، فإن هناك حالة عداء كبيرة بين كثير من مليشيات غرب ليبيا وبين هؤلاء المرتزقة، وهو ما وصل في بعض الأوقات إلى حد المواجهات المسلحة، إذ يتعامل المرتزقة بنوع من الاستعلاء في مواجهة مليشيات الغرب. أما الأمر الثالث، فيرتبط بوجود خلافات مستمرة بين هؤلاء المرتزقة وبعضهم بعضًا، خاصة في ظل الخلاف على مسألة الرواتب. وتعكس الأمور الثلاثة السابقة تحول المرتزقة في غرب البلاد إلى ما يشبه القنابل الموقوتة القادرة على تأجيج الأوضاع في أي وقت.
3- تفاقم عسكرة الصراع: يتعامل المرتزقة مع الوضع في ليبيا من نظرة براجماتية بحتة، إذ إنهم يستخدمون السلاح من أجل تحقيق مكاسب مالية، وبالتالي فإنهم يمكن استغلالهم من جانب أي طرف في الغرب في مواجهة الخصم خلال المرحلة المقبلة، خاصةً في ظل تصاعد الانقسامات والخلافات بين مليشيات طرابلس وبعضها بعضًا من جانب، وبين مليشيات طرابلس ومليشيات مصراتة من جانب آخر، وهو صراع يغذيه التنافس المحتدم على المناصب السياسية بين بعض شخصيات الغرب، وعلى رأسها وزير داخلية الوفاق "فتحي باشاغا" الذي يسعى لتحييد المليشيات غير الموالية له، في مقابل إدماج مليشيات أخرى، وهو ما ينذر بإمكانية تفاقم عسكرة الصراع في الغرب الليبي، وتحوله إلى منصة تهديد حقيقي لأي حلحلة سياسية محتملة في ليبيا.
وفي المجمل، فإنه لا يمكن التعويل على أي تفاهمات سياسية أو عسكرية قائمة ومحتملة بدون التوصل إلى حل واضح وجذري يتعلق بأولوية إخراج المرتزقة من الغرب الليبي، وفي ظل استمرار الدور التركي المشبوه، وتركيز القوى الدولية والإقليمية على إتمام المسار السياسي وتثبيت وقف إطلاق النار، وصولًا إلى انتخابات في نهاية العام الجاري. فقد يكون من المستبعد أن يتم إخراج المرتزقة في المدى المنظور، وهو ما يحمل العديد من التداعيات الكارثية القادرة على تفخيخ الوضع وتفجيره من جديد في أي لحظة.